رسالة 2007
رسالة من كالكوتا
فيما نستكمل "رحلةَ الحجّ المبني على الثقة في أنحاء الأرض" الذي يجمع شبابًا من مختلف البلاد، فإن فهمَنا لهذه الحقيقة يصيرُ أكثرَ عُمقـًا: إنّ كلَّ البشر يشكّلون عائلةً واحدةً وإنّ الله يسكن في كل إنسان بلا استثناء. في الهند، مثلما هو الحال في أماكنَ أُخرى في أسيا، اكتشفنا كيف أن الاهتمام الطبيعي بحضور الله في الخليقة يقتضي احترام الآخر واحترامَ كلِّ ما هو مقدّسٌ بالنسبة له. من المهم جدًا في أيامنا هذه إحياء هذا الاهتمام بالله وكذلك احترام الإنسان في المجتمعات الحديثة. كلُّ إنسانٍ مقدسٌ لدى الله. لقد بسطَ المسيحُ ذراعَيه على الصليب ليجمعَ كلَّ البشرية في الله. وعندما يرسلنا المسيحُ لتوصيل محبةِ الله إلى أقاصي الأرضِ، فإن ذلك يتم من خلال حوارٍ حياتيّ في المرتبة الأولى. لا يضعنا الله أبدًا في صدام مع من لا يعرفونه. كَثيرونَ من الشباب حول العالم مستعدّون لجعل الوحدةِ داخلَ العائلة البشرية حقيقةً ملموسة. إنهم يتساءلون عن كيفية مقاومة العنف والتفرقة وعن تخطي جدرانِ الكراهية واللامُبالاة. هذه الجدران موجودة بين الشعوب وبين القارات، وأيضًا بقرب كل واحد منا، بل وحتى في أعماق قلوب البشر. علينا إذن أن نختارَ: نختارُ المحبةَ، نختارُ السّلام. إن المشاكلَ الجمّة التي تواجه مجتمعاتنا يمكنُ أن تؤدّي بنا إلى الانهزامية. أما باختيارنا أن نحبَّ الآخرين، فإننا نكتشف مساحةً من الحرية نستطيع من خلالها أن نخلق مستقبلاً لنا ولمن ائتُمننا عليهم. وبموارد قليلةٍ يجعلنا الله خالقين معه، حتى عندما لا تكون الظروفُ مواتيةً. نذهب تجاه الآخر، أحيانـًا ونحن فارغي الأيدي، ونحاول أن ننصت إليه وأن نفهمه، فيتبدل الوضع المستعصي تمامًا. ينتظرنا الله لدى من هم أفقر منا. " بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُم". [I] في الشمال كما في الجنوب، تؤدي عدم المساواة الهائلة إلى الخوف من المستقبل. يكرس البعض جهودهم، بشجاعة بالغة، لتغيير أنظمة الظلم. فلنتساءلُ جميعًا حول أسلوب حياتنا؛ فلنجعل معيشتنا بسيطة فتصبح قلوبنا منفتحة ومستعدة لاستقبال الآخرين. هناك في أيامنا هذه مبادراتٌ عدةٌ للمشاركة متاحةً لكل واحد. إن تجارب كالتجارة العادلة أو القروض الصغيرة أثبتت أنه يمكن الجمع بين النمو الاقتصادي والتضامن مع الأكثر فقرًا. هناك من يحرصون أن يُُستخدم بعضٌ من أموالهم في المساهمة في إحلال قدرٍِ أكبر من العدالة. أن نعطي وقتنا كي تأخذ مجتمعاتُنا وجهًا أكثر إنسانية أصبح أمرًا مهمًا. يمكن لكل واحد منا أن يحاول الإنصات ومساعدة الآخرين، وليكن شخصًا واحدًا: طفلاً مُهمَلاً، شابًا بلا عملٍ ولا أملٍ، شخصًا محتاجًا أو مسنّـًًا. إن اختيارَ الحبّ لهوَ اختيار الرّجاء. وبينما نثابر في مسيرتنا لهذا الطريق، نكتشف المفاجأة: إن الله قد اختارَ كلَّ واحدٍ منّا من قبل أن نفعلَ شيئـًا. "لا تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي.. لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ، إِذْ صِرْتَ عَزِيزًا فِي عَيْنَيَّ مُكَرَّمًا وَأَنَا قَدْ أَحْبَبْتُكَ." [II] في الصلاة نضع أنفسنا ومن اُئتمنا عليهم أمام عينِ الله السّاهرة. وإن الله يرحب بنا كما نحنُ، بكل ما هو حسَن حقّـًا، لكن أيضًا بكل تناقضاتنا الداخلية بل وحتّى أخطائنا. ويؤكد لنا الإنجيل أن ضعفاتنا يمكن أن تكون بوّابةً يدخلُ منها الرّوحُ القدُس إلى حياتنا. كتَب الأخ روجيه في كالكوتا منذ ثلاثين عامًا يقول: "الصلاة هي مصدر حبٍ لك، فاترك نفسك وجسدَك وروحك فيها في إخلاءٍ تام. كلَّ يومٍ ادخل إلى عمق بضعة سطورٍ من الكتاب المقدّس، ومن خلالها تُقابل وجهًا لوجه شخصًا آخرَ – الربُّ القائمَ من الأموات. وفي صمتٍ، اجعل كلمة المسيح الحيّة تولدُ في داخلك؛ ثم ضعها حيّز التطبيق في الحال." وبينما هو يغادر كالكوتا، أضاف: "الآن نغادر وقد اكتشفنا في قلب الألم العميق حيوية إنسانيّة مذهلة؛ وقابلنا شهودًا لمستقبل مختلف للجميع. ولا يوجد أمام شعب الله سوى طريقة واحدة للمشاركة في هذا المستقبل: الانتشار في العالم كلّه، واضعينَ مثالاً للمشاركة في العائلة الإنسانية. إن مثالاً كهذا سيحمل قوةً لنشر ذاته، هازّاً حتى أكثر التنظيمات رسوخًا وخالقـًًا شركة وسط العائلة الإنسانية." [III] تظل دعوة الأخ روجيه موجّهة لنا اليوم. فالمسيحيين، على تفرقهم في أنحاء العالم، يمكنهم أن يعطوا الرّجاء للجميع بأن يحيوا في هذه البشارة المذهلة: لم تعٌد بشريتنا متجزئة بعدَ قيامة المسيح! كيفَ يمكننا أن نشهد عن إله الحب في العالم بينما نسمح للانقسامات بين المسيحيين أن تستمر؟ فلنتجاسر أن نتقدم نحوَ الوحدة الملموسة! فإننا عندما نلتفت معًا نحو المسيح، وعندما نقف معًا في الصلاة، يوحّدنا الرّوحُ القدُس بالفعل. وفي الصلاة، نتعلم باتضاع أن ينتمي كلٌّ منّا للآخر. هل لدينا الشجاعة الكافية كي نحيا واضعين في اعتبارنا منفعة الآخرين؟ كلّما اقتربنا من المسيح ومن إنجيله، اقتربنا من بعضنا بعض أكثر. فإن تبادل العطايا يصدر عن الكَرم المتبادَل. وكلّ هذه العطايا هي لازمة اليوم لكي تجعلَ صوتَ الإنجيل مسموعًا. فهؤلاء الّذين قد وضعوا ثقتَهم في المسيح هم مدعوون لتقديم وحدتهم للجميع؛ وهكذا يتفجّر تمجيدُ الله! و هكذا يصير مثل الإنجيل الرائع حيّاً، فتصير حبّة الخردل الصغيرة أكبر شجر الحديقة تأوي طيورَ السماء في أغصانها. [IV] متأصلين في المسيح، نكتشف قدرةً للانفتاح على الجميع، حتى أولئك الذين لا يؤمنون به أو لا يبالون. فلقد صارَ المسيحُ خادمًا للجميع، وهو لا يهين أحدًا. اليومَ أكثر من قبل، لدينا إمكانية لحياة الشركة خارج حدود الأوطان. لقد أعطانا الله نفخته، أي روحه؛ وها نحن نصلي كي "يهدي أقدامنا في طريق السلام." [V] 1 في بداية خدمته، كتبَ البابا بندكت السادس عشر: "ينتمي كلُّ البشرِ إلى عائلةٍ واحدةٍ ووحيدة." (رسالة اليوم العالمي للسلام 2006) في كالكوتا يشكل المسيحيون أقليةً بين أديانٍ تاريخيةٍ كبيرة. أدّت التصعيدات بين الأديان في الهند إلى أحداث عنفٍ شديدة في الماضي، وذلك بالرغم من أن الاحترام المتبادل هو السمة الأساسية للعلاقة بين مؤمني الأديان المختلفة. وتحظى الأعياد الدينية لكل جماعة باحترام الآخرين، بل وتشكل أحيانـًا فرصًا للمشاركة. 2 كتب لنا ربُّ أسرةٍ لبنانيٌّ في ذروة القصف المتبادل في الشرق الأوسط: "إن سلامَ القلب ممكنٌ! عندما نشعر بالإذلال فإننا نبغي بدورنا أن نذل الآخرين. بالرغم من الألم وبالرغم من الكراهية التي تنمو في داخلنا وبالرغم من الرغبة في الانتقام التي تستشري فينا في أوقات ضعفنا، فإنني أؤمن بالسلام. نعم، السلام هنا والآن!" 3 يحيا عدة أخوة من جماعة تيزيه منذ ثلاثين عامًا في بنجلادش وسط شعبٍ أغلبه من المسلمين. يشارك الأخوة حياتهم اليومية مع أشد الناس فقرًا والمتروكين. كتب أحد الأخوة: "نكتشف أكثر وأكثر أن المنبوذين من المجتمع بسبب ضعفهم ومظهر عدم صلاحيتهم هم علامة لحضور الله. وعندما نستضيفهم فإنهم يُخرجونا رويدًا رويدًا من عالم المنافسة الشديدة بين البشر إلى عالم الشركة بين القلوب. إن تواجدنا في بنجلادش، وسط هذا التنوع الديني والثقافي، لهو علامة على أن خدمة أخوتنا وأخواتنا الضعفاء يفتح سبيلا للسلام والوحدة." 4 إن عدم المساواة يؤدّي حتمًا إلى العنف. عشرون بالمائة من سكان العالم يسكنون البلاد الأكثر تقدمًا ويستخدمون ثمانين بالمائة من الموارد الطبيعية المتاحة. لذلك أصبحت الإدارة المسئولة لموارد الطاقة ولمصادر مياه الشرب ضرورةً مُلحةً. 5 في مناسبة جنازة الأخ روجيه، كتب مارسللين ثووفس (رئيس دير La Grande Chartreuse بفرنسا): "إن الظروف المأساوية لوفاة الأخ روجيه ليست إلا غطاءً خارجيًا يلقي المزيد من الضوء على الضعف؛ هذا الذي طالما تحدث عنه كبابٍ يختاره الله كي يأتي ويصير معنا." (راجع 2 كورنثوس 10:12) 6 في القرن الرّابع، تحدّث أحد المسيحيين عن تكامل الصلاة والالتزام العملي. بالنسبة له، فإن المشاركة في الإفخارستيا تدفعنا نحو التضامن مع الفقراء. 7 على كونهم أقلية صغيرة في العالم، كان لدى مسيحيي القرن الأول بالفعل هذا الاعتقاد: لقد أزالَ المسيح جدار الانفصال بين الشعوب بأن وضع حياته فوق الصليب (راجع أفسس 2: 14-16) 8 كتبَ مسيحيٌّ من فلسطين في القرن السادس يقول: "لنتخيّل العالم كدائرة، والله في مركزها. أما أنصاف الأقطار فهي الطرق المختلفة التي يحيا بها البشر. فالذين يريدون الاقتراب من الله يسيرون في اتّجاه مركز الدائرة؛ وفي الوقت نفسه يقتربون من بعضهم البعض. وكلّما اقتربوا من الله يقتربون من بعضهم؛ وكلما اقتربوا من بعضهم يقتربون من الله." (دُروثيئوس من غزّة، تعاليم 4) 9 "علاقة الكنيسة بالديانات الأُخرى يمليها احترامٌ مُضاعَف: احترام للإنسان في بحثه عن إجابات لأعمق أسئلة حياته، واحترام لعمل الرّوح في الإنسان. (...) كل صلاةٍ حقيقيّة هي مدفوعة بالرّوح القدس، الّذي يوجد سريّـًا في قلب كل إنسان." (يوحنا بولس الثاني، Redemptoris missio) 10 أحد الذين يمكن أن يساندونا في هذا الطريق هو ديوتريتش بونهوفر. ففي أحلك أوقات القرن العشرين، أعطى حياته حتّى الاستشهاد. |