رحلة الحجّ المبنيّة على الثقة
على الأرض في روما
من كيغالي إلى روما
قبل شهر من اللّقاء الأوروبيّ في روما، عُقدت مرحلة من "رحلة الحجّ المبنيّة على الثقة في الأرض"، في كيغالي - دولة رواندا، من ١٤ إلى ١٨ تشرين الثاني. وهي المرحلة الأفريقيّة الثالثة بعد جوهانسبرغ - جنوب أفريقيا (١٩٩٥)، ونيروبي - كينيا (٢٠٠٨). وفي هذا اللّقاء قَدِمَ المشاركون من جميع أنحاء رواندا، من منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا الشرقيّة ومن خارجها : أكثر من ٨٥٠٠ شابّ وشابّة من ٣٥ بلداً، استقبلتهم ٤٠٠٠ أسرة.
من كيغالي، ومع اثنين من إخوتي، قصدنا غوما - شمال كيفو، تماماً في وقت الاضطرابات الأخيرة، حيث تتدفّق عشرات الآلاف من العائلات النازحة.
لقد اجتازت رواندا فترة معاناة كبيرة. ولا تزال الذاكرة حيّة والجراح مفتوحة. ولكنّ البلد يستعيد عافيته. ونحن نشجّع أولئك الّذين يجلبون الرحمة والشفاء، على سبيل المثال عبر رعاية الأيتام، وكأنّهم أطفالهم.
من رواندا، حفظنا بخاصّة الدعوة إلى المصالحة. الكنيسة ترغب في المساهمة في مصالحة عميقة، بعيداً عن التعايش القسريّ، وإنّما مصالحة القلوب. وهذه الدعوة تشملنا كلّنا: كيف نوفّق بين ما يبدو، أو ربّما، هو متعارض؟ في الواقع، لسنا مجبرين على الاستقالة أو عدم الإكتراث، لأنّ المسيح جاء ليُصالح بين ما يبدو متعارضا بشكلٍ نهائي.
التقينا صانعي السلام وشهوداً للحبّ في غوما، في ظلّ ظروف استثنائية بمواجهة ضائقة كبيرة، وغالباً حالة عوز شديدة. لقد صمدوا وسط الفوضى والخوف والوحدة بسبب إيمانهم. ونُبقي في ذهننا صورة كنيسة لا تزال محلّ ترحيب حتّى وسط توقّف كلّ البُنى عن العمل.
أنا منذهل جدّاً من حيويّة الشبّان المسيحيّين في أفريقيا. هذه الديناميّة هي نوع من الحماس الإنجيليّ للثبات بحزم وتجذر في الرجاء.
وإن دَفعَنا العام ٢٠١٢ للاهتمام بخاصّة بالأفارقة الشبّان، سنصغي في العام ٢٠١٣ إلى الشبّان الآسيويّين: البعض منّا سيحجّون خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأوّل إلى بلدان عديدة، بما في ذلك محطّات في كلّ من سيول - كوريا، وفاساي ومومباي - الهند.
سنبدأ سنة ٢٠١٣ بالتوجّه نحو اسطنبول مع ١٠٠ شابّ وشابّة، للاحتفال بعيد الدنح مع البطريرك المسكوني بارثولوميو ومسيحيّي هذه المدينة.
الرسالة الّتي نشرت في العام الماضي في برلين، "نحو تضامن جديد"، ستُواصل دعم بحثنا على مدى السنوات الثلاث المقبلة. وقد حَدّدت مسبقاً مراحل إعداد "تجمّع لتضامن جديد" سيعقد في تيزيه في آب ٢٠١٥. (www.taize.fr)
ولمواصلة الإعداد، سنكرّس سنة ٢٠١٣ بدءاً من اللّقاء الأوروبيّ في روما، للبحث عن سبل "تحرير منابع الثقة بالله". وهو ما تحثّنا عليه "سنة الإيمان" الّتي أطلقها البابا بندكتوس السادس عشر. وفي ما يلي أربعة مقترحات للمضيّ قدماً.
الآخ ألويس
مقترحات عام ٢٠١٣
تحرير منابع الثقة بالله
الاقتراح الأوّل
تبادل الخبرات معاً عن مسيرتنا الإيمانيّة
ما هو معنى حياتنا ؟ كيف نواجه المعاناة والموت ؟ أين نجد فرح الحياة ؟
إنّ كلّ جيل وكلّ إنسان مدعوّ ليجيب عن تلك الأسئلة.
والإجابات لا تُحوى في صيغ جاهزة.
"وإذا كان الله موجوداً...؟" إنّ مسألة الله لم تختفِ من الأفق. ولكن طريقة الطرح تغيّرت جذريّاً.
حقيقة أنّ الفردانيّة أضحت مركزيّة في عصرنا ففيها وجه إيجابي: إنّها تعزّز قيمة الإنسان، وحريّته وحكمه الذاتي.
وحتّى في المجتمعات حيث للدين حضور فاعل، إنّ الثقة بالله تتجه من إنحسار إلى إنحسار بشكل بديهيّ؛ إنّها تتطلّب قراراً شخصيّاً.
"(الله) السَّاكِنُ في نُورٍ لا يُدْنَى مِنهُ، الّذي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاس، ولا يَسْتَطيعُ أَنْ يَرَاه" (١ طيموتاوس ٦/١٦) هذه الكلمات للرسول بولس لها صداها القويّ اليوم. فما هي النتائج الّتي يمكن استخلاصها ؟
لنبحث معاً، ونتحدّث عن الأمر مع آخرين مؤمنين، أو ملحدين...! فالخطّ الفاصل بين الإيمان والشك يمرّ من خلال العديد من المؤمنين كما غير المؤمنين.
عندما تفتر عزيمة أولئك الباحثين عن الله في التعبير عن إيمانهم، ذلك لا يعني قلّة إيمانهم، فهم واعون لسموّ الله، إنّما يرفضون حبسه، ووضعه في مفاهيم محددة.
إذا كان الله محجوباً عن بصر كلّ إنسان، فكيف أكّد المسيحيّون الأوّلون أنّنا بيسوع يمكننا أن نرى الله؟ "إِنَّهُ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الـمَنْظُور" كتب الرسول بولس نفسه. (كولوسي ١/١٥)
يسوع هو الواحد (الأحد) مع الله، إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ من دون انفصال أو تماذج. وكم من صراعات شهدها التاريخ ليَنضج معنى هذه العبارات المتناقضة عن سرّ الله! وهي لا تغنينا عن بحثنا الشخصيّ، بل هي علامات ترسم لنا المسار.
في كلّ ما هو وما يعمله، يسوع يظهر أنّ الله محبّة، ويكشف جوهر الله. الربّ ليس سلطة تعسّفيّة، بل هو الإله الّذي يحبّنا.
المسيحيّون الأوائل شهدوا لقيامة المسيح من بين الأموات، وأنّه في الله. وقد حمل إلينا حياة الله نفسها، مثل كنز في قلب أولئك الّذين يلتقي بهم. وهذا الكنز بحدّ ذاته هو حضور شخصيّ يحمل اسم الروح القدس الّذي يعزّي ويشجّع.
إنّ أسماء "الآب" و"الابن" و"الروح القدس" تشير إلى أن الله هو شراكة وعلاقة وحوار ومحبّة... بحيث أنّ الثلاثة هم واحد فقط. وعليه، يحتوي الإيمان المسيحيّ ظاهراً كثيرا من التناقض، بحيث يستعصي علينا أن نصبح أسياد هذه الحقيقة وأن نتمكن منها.
الاقتراح الثاني
البحث عن سبل اللّقاء بالمسيح
يسوع لم يعلّم نظريّاتٍ، لقد عاش حياة إنسانيّة مماثلة لحياتنا. والفرق الوحيد أنّ محبّة الله شعّت فيه من دون أيّة ظلمة.
ولكن حتّى أثناء حياته، شكّ كثيرون به: "إِنَّهُ فَقَدَ صَوَابَهُ!" (مرقس ٣/٢١)، "يَدْعُو اللهَ أَبَاهُ مُسَاوِيًا نَفْسَهُ بِالله" (يوحنّا ٥/١٨).
لا أحد مجبر أن يؤمن به. ومع ذلك، فأن نؤمن هو أكثر من مجرّد شعور، إنّما هو أيضاً فعل عقلانيّ. يمكننا أن نتّخذ قراراً مدروساً بوعي ليكون لنا الإيمان بالمسيح.
ما الّذي يجعل يسوع ذات مصداقيّة ؟ ما الّذي يجعل أنّه، ومن ألفي عام، لديه الكثير من الأتباع؟ أليس تواضعه ؟ لم يفرض شيئاً على أحد. ببساطة، لقد خطى اتّجاه جميع النّاس ليقول لهم أنّ الله قريب جدّاً.
لقد وثق بأولئك الّذين رفض المجتمع أن يثق بهم، وأعاد لهم كرامتهم. وارتضى لنفسه الاحتقار والتهميش، حتّى لا ينكر حبّ الله للفقراء والمهمّشين.
يمكننا أن نلتقي المسيح من خلال الإنجيل. واليوم، هو لا يزال يسألنا: "وأَنْتُم مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أنَا؟" (متّى ١٦/١٥). ويقول لنا أنّه لا يزال يمنحنا ذاته في الافخارستيا.
يمكننا أن نلتقي به في الشركة مع أولئك الّذين يؤمنون به، عندما تكون كنائسنا جماعات تلاقي.
في العام المقبل، سنبحث عن اتّخاذ خطوات عمليّة للمساهمة في تحقيق شركة منظورة لجميع الّذين يحبّون المسيح بحقّ.
سنلتقي به مع الأكثر فقراً؛ فقد كان يسوع يحبّهم محبة خاصّة.
"كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هـؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه!" (متّى ٢٥/٤٠)؛ نودّ أن نؤكد هذه الحقيقة في تجمعنا في العام ٢٠١٥.
يمكننا أن نلتقي به عندما نلتفت إلى شهودٍ يعتمدون عليه.
لنتوجّه وحدنا أو مع البعض ، ولنقابل ونسأل سيّدة أو رجلا تغيّرت حياته/ها بفعل اللّقاء بالمسيح.
أو فلنقرأ معاً حياة أحد شهود الإيمان: فرنسيس الأسيزي، وجوزفين بخيتة، وبونهوفر ديتريش، والأم تيريزا، وأوسكار روميرو، والكسندر مَنّ، وغيرهم كثر.
لقد كانوا متمايزين جدّاً، كلّ منهم وفق مواهبه الفريدة. ولا ينبغي أن نحاول تقليدهم، ولكن أن نرى كيف أنّ ثقتهم بالمسيح حوّلتهم.
كان لديهم أخطاؤهم، ولكن جميعهم خاطبوا الله في الصلاة، حتّى ولو اختبر بعضهم اللّيل المظلم. الصداقة مع المسيح جعلتهم أحراراً، وهكذا أزَهَرَت ونَضجت أفضل المواهب الحاضرة في حياتهم.
الاقتراح الثالث
البحث عن سبل الإعتماد على الله
الإيمان بالله، والثقة به، يعنيان الإعتماد عليه. والتحلّي بالإيمان لا يعني القدرة على تفسير كلّ شيء أو عيش حياة أسهل، ولكن بلوغ الإستقرار ونقطة الإنطلاق.
ويعني عدم الإعتماد على نجاحنا أو فشلنا. وبالتالي الإعتماد في نهاية المطاف على ذاتنا، إنّما على الآخر الّذي يحبّنا.
لا أحد يستطيع أن يعيش من دون الإعتماد على شيء. وعليه، بهذا المعنى الجميع يؤمن بشيء ما. ويسوع يدعونا إلى الإعتماد على الله، كما هو فعل ولأنّه فعل. هو يعلّمنا أن نصلّي "أبانا الذي في السموات".
السجود للقربان بصمت يغذي التأمّل والعقل. ولكن الأهمّ أنّه يضعنا أمام وفي حضرة الله.
تنمية أوقات "السبت"، لحظات نتوقّف فيها من دون أن نقوم بشيء، نقدّم وقتنا لنفتح كنيسة مجاورة لساعتين كلّ أسبوع، ونصلّي مع الآخرين، وننضمّ إلى الكنيسة المحليّة كلّ أسبوع لنذكر موت وقيامة المسيح... وهذا كلّه يسمح لله أن يسكن في حياتنا اليومية.
هناك حياة داخليّة في كلّ كائن بشريّ، حيث يختلط النور بالظلمات، والأفراح بالمخاوف، والثقة بالشكّ. ومن هنا تفتتح أمامنا فرصٌ عديدة.
عندما ندرك أنّنا محبوبون أو لمّا نحبّ، وعندما نختبر روابط الصداقة، أو عندما يلمسنا جمال الخلق والإبداع الإنسانيّ، كلّ الأدلّة تكشف لنا أنّ الحياة رائعة. أحياناً هذه اللّحظات قد تفاجئنا، وقد تلمسنا حتّى في وقت المعاناة كنور يشعّ من مكان آخر.
ومن خلالها، يمكننا أن نتلمّس ببساطة حضور الروح القدس في حياتنا.
في وقتنا، حيث اختبر كثيرون تصدّع العلاقات ومتغيّرات مفاجئة في حياتهم، العلاقة مع المسيح يمكن أن تعطي الاستمراريّة والمعنى.
الإيمان لا يلاشي تناقضاتنا الداخليّة، ولكنّ الروح القدس يُعِدّنا لنعيش حياة الفرح والحبّ.
الاقتراح الرابع
الانفتاح من دون الخوف على المستقبل والآخرين
الإيمان الراسخ لا يغلقنا على ذاتنا. الثقة بالمسيح تفتح لنا باب الثقة بالمستقبل والآخرين، وتشجّعنا لنواجه بشجاعة مصاعب عصرنا وحياتنا.
الإيمان هو بمثابة مرساة تثـبّتنا في مستقبل الله في المسيح القائم، الّذي فيه يربطنا الإيمان من دون انفصال. والإنجيل لا يقدّم لنا أيّ مجال للتكهّنات بشأن الحياة بعد الموت، بل يحمل لنا الرجاء بملاقاة المسيح الّذي به نحيا الآن.
الإيمان يقودنا لئلاّ نخاف أبداً لا من المستقبل ولا من الآخرين.
الإيمان الواثق ليس سذاجة. إنّه يعي الشرّ الموجود في الإنسانيّة، وحتّى في قلوبنا. ولكنّه لا ينسى أنّ المسيح جاء للجميع.
الثقة بالله تولد فينا ولادة نظرة جديدة للآخرين، وللعالم، والمستقبل؛ طريقة تنطوي على الامتنان والرجاء، ونظرة إلى الجمال.
الثقة بالله تحرّرنا لنكون خلاّقين.
ويمكننا أن نرنّم مع القدّيس غريغوريوس من القرن الرابع: "يا من أنت أبعد من كلّ شيء، أيّ عقل يمكنه أن يدركك ؟ كلّ الكائنات تمجّدك. رغبة الجميع ترنو إليك".
في آب 2015:
في تيزيه، تجمّع نحو تضامن جديد
75 سنة على تأسيس جماعة تيزيه
100 عام على ميلاد الأخ روجيه